حين كتبت ماري شيلي روايتها فرانكنشتاين سنة 1818 ، لم يكن يدور بخلدها أنها بصدد خلق البذرة التي أنبتت شجرة الأعمال الفنية التي تندرج ضمن ما يسمى بالخيال العلمي .
وعلى عكس الصورة النمطية الملتصقة بأذهان الكثيرين ، فإن “فرانكنشتاين” ليس هو ذلك المخلوق الضخم البشع المخيف الذي تم تصنيعه في المختبر من أعضاء جثث تم استخراجها من المقابر، بل هو “فيكتور فرانكنشتاين” طالب الطب الشاب الوسيم الموهوب الذي لديه هوس سري وطموح جامح حاول تحقيقه بمفرده في مختبره ، اكتشف من خلاله طريقة جديدة لبعث الحياة فى المادة هي التي مكنته من صنع مخلوق غاية في القبح نسجت حوله فيما بعد مئات الأساطير والروايات .
القصة و الشخصية حققتا نجاحاً غير مسبوق منذ صدور رواية ماري شيلي ، وعُولجت مسرحياً وسينمائياً في عشرات الأعمال التي تتجاوز وفق بعض الباحثين 170 عملا .
لأجل ذلك، استهوت الرواية الباحث المختص في المسرح الدكتورغوث زرقي لكتابة النص مسرحيا وفق قراءة مضمونية تجديدية أطلق عليها تسمية ” مابعد فرانكنشتاين ” وأخرجها الأستاذ الفنان الموهوب أحمد نصرلي فيما أدى دوري العمل كل من الأستاذ الفنان رياض ميساوي والممثل الشاب صالح ظاهري في أحدث منتوج فني ينتجه مركز الفنون الدرامية والركحية بالقصرين في سياق مشروع وتجربة ” مخبر الإخراج المسرحي” .
تدور أحداث العمل في ركح تؤثثه تجهيزات وظيفية هي عبارة عن طاولة المختبر وآلة للتصوير ومدخل خاص بالمختبر، وشاشة عملاقة تظهر عليها بوضوح صور الممثلين وبعض الصور والمؤثرات والتسجيلات المصورة والصوتية الضرورية التي يستوجبها العرض ، يحاول من خلاله فرانكنشتاين أن يجرد المسخ الذي صنعه في مختبره من كل الأحاسيس والقيم ، ولكنه لا يفلح في ذلك إذ يعود المخلوق القبيح شكلا متشبعا بقيم المحبة والجمال والأحاسيس النبيلة فيستشيط الصانع غضبا ويعيد شحنه من جديد قيما تجرده من كل الأحاسيس ومن القدرة على التفكير والتمييز والرغبة في اللعب واللهو والحب والإعجاب ، ثم يرسله مرة أخرى ليختلط مع البشر ويتعامل معهم وفق البرمجية المحينة الخالية من المشاعر والأحاسيس لكن المسخ يتمكن في النهاية من التمرد على صانعه ، بعد أن تغلبت الصفات البشرية على الصفات الاصطناعية فيه .
العمل المسرحي “ما بعد فرانكنشتاين ” أنتجه مركز الفنون الدرامية والركحية بالقصرين تحت إشراف الفنان الطيب الملايكي الذي لم تحل حالة العطالة والتعويق التي تسببت فيها موجة الكوفيد بينه وبين العمل والكدح المتواصلين والبحث الحثيث عن مشاريع وأفكار ومبادرات عايشناها معه وأخرى سترى النور في قادم الأيام .
ويبدو من خلال العرض الأول / عرض اللجنة أن فريق العمل المتجانس الذي اشتغل ضمن مشروع المسرحية إضاءة وموسيقى وصوتا وديكورا وقيافة وتجميلا وأداء وإخراجا وإنتاجا قد نجح إلى حد كبير في اقتلاع إعجاب الجمهور الذي واكب عرض مساء الجمعة الماضي بالمركب الثقافي بالقصرين وخرج بانطباع جميل يراوح بين الانبهار والثناء على تجربة جديدة تنضح مقولات فلسفية دونما إسراف ، وتجارب علمية دونما مبالغة ، وقيما إنسانية ضمنية بلغة عربية فصيحة في متناول الجمهور ، أتقنها المثلان الموهوبان رياض الميساوي ) في دور فرانكنشتاين ( وصالح ظاهري ) في دور الكائن المسخ المصنع مخبريا ( ولم يرتكبا خلال أداء دورهما أية أخطاء .
ونعتقد أن هذا العمل بمزيد من التطوير والتدريبات سيكون أحد أيقونات الموسم الثقافي الحالي وأحد أحداثه اللافتة المميزة .
لطفي هرماسي